لا تعتذر 2

0


لا تعتذرْ
يا طيفَها لا تعتذرْ
فلأيِّ ذنبٍ جئتَ ليلاً تعتذرْ؟!
ها قدْ أتتْ مِن نَفسِها
و لتوِّها كالصُّبحِ إذما ينتشرْ
ها قد أتتْ لمَّا مررتُ بحيِّها
مثلَ الشَّريدِ المُنكسِرْ
ألقَتْ إليَّ جوابَها
نظراتِ ظبيٍ ينتظرْ
و مَشَتْ فَسِرْتُ بنورِها
حتَّى يُحيِّيني الشَّجَرْ
و الدَّربُ تملؤُه الحُفَرْ
أمَّا القذائفُ حولَنا كالغيثِ لمَّا ينهَمِرْ
حتَّى بلغتُ زقاقَها
و أقولُ :"يا عبدُ اصطَبِرْ"
***
يا طيفَها لا تعتذرْ
و الله إنِّي لستُ أخشى
أين سوَّاني القَدَرْ
فأنا بحاجةِ حُبِّها
مثلَ الوليدِ لأمِّهِ
حتَّى إذا بلغَ الفِطامْ
تُزجيهِ عن ثديٍ لها
و هوَ المُعذَّبُ يستعِرْ
***
يا طيفَها لا تعتذرْ
أم أيَّ ذنبٍ قد أتيتَ لتعتذرْ
و لقد بلغتُ زقاقَها
فرأيتُها مِنِّي تَفِرّ
و رأيتُ ظِلِّي مُسرِعاً
حتى لَيسبِقَ خطوُه خطوي
و أقولُ يا ظِلُّ اصطبِرْ
طرقاتُ قلبي خِلتُها
طرقاتِ قلبٍ في الجِوارْ
لهاربٍ من ذي خَطَرْ
و أنا أسيرُ وراءَها
كالأعمى رُدَّ له البَصَرْ
و السَّيلِ للسَّهلِ انحَدَرْ
حتَّى بلغتُ بِناءَها
و هي المنيرةُ كالقَمَرْ
يا طيفَها و الله إنِّي
ابنُ سَبْعٍ قد هَصَرْ
ما لي أرى شِبْلَ السِّباعِ
كواجفٍ بعد اْن زَأرْ
صيَّادُه ظبيٌ نَفَرْ
***
ولقَدْ بَلغتُ بِناءَها
التفتتْ إليَّ بنظرةٍ
تُنبيني ألاَّ أستمِرْ
فتعثَّرتْ رِجلاي
ثُمَّ وقفتُ أرنوها
و لَمْ أفهمْ عُيوناً
كادَ قلبي أن يصير الحُنجُرَةْ
بل كادَ قلبي ينفَطِرْ
قالت أراكَ كصائدٍ
يصطادُ في الماءِ العَكِرْ
أفبَعدَ عامينِ استفقتَ
مُحدِّثاً غَزَلَ السَّمَرْ
أم دُنجُوانٌ كُلَّما
مرَّتْ غزالةُ راحَ يحذو خَطوَها
أوَفي خَبْبْ
أم أنتَ مِن شُطَّارِ مَروٍ
كاهِنٌ
أم شاعرٌ
أم تائهٌ ضَلَّت به الطُّرقُ الأُخَرْ
إذ لا تزالُ بحيِّنا
في كلِّ يومٍ طارقاً
و أنا أرُدُّكَ بالكلامِ و بالنَّظَرْ
أم حالَ عِلمُكَ ذلكَ المزعومُ جهلاً
أم أرى أشعارَ حُبِّكَ كُلَّها
أشعارَ كذَّابٍ أشِرْ
رُحْ فانطَرِدْ
و إلى زقاقي لا تَعُدْ
و بدربِ بيتي إن لقيتُكَ
لن تُلاقي ما يَسُرّ
عامانِ بِتَّ مُخادِعاً
و أنا عَلامَ أصطَبِرْ؟!
هلاَّ بربِّكَ في ثرانا لاتَمُرّ
و اللهِ إنِّي إذ أراك
يصيرُ يومي يومَ نحسٍ مُستَمِرْ
أفكِبرياؤُكَ تلك صارَتْ
كالهشيمِ المُحتظِرْ؟!
أم أنَّ نفسَك ليسَ تملِكُ عِزَّةً
إحساسُك العالي فهلْ ينتهابُهُ
مِن كلِّ زجري هزَّةً؟!
أمجادُكَ العُليا التي
حدَّثتَ عنها بني البَشَرْ
يا حسيباً يا نسيباً أين ذاك قد اندَثَرْ؟!
لا تعتذِرْ
يا طيفَها ذا قولُها لمَّا أردتُ اْن أعتذِرْ
و كأنَّها قد أوتيتْ عِلمَ الغُيوبْ
فبكلِّ أفكاري تلوح
و بكُلِّ خاطرةٍ تمُرّ
فلتعجَبَنْ
وكأنَّها تؤتى الخَبَرْ
فترفَّقي
لا تعتذِرْ
فتمهَّلي
لا تعتذِرْ
فتصبَّري و لترحَمي
ربّي الصَّبورُ بل الرَّحيم
لا تعتذِرْ
آليتُ إلاَّ أن أراكَ مُعذَّبَاً
لا تعتذِرْ
إن شئتَ ذلك فانتظِرْ
و لتصطَبِرْ
وأنا لذلك مُرهِفاً سَمعي
و عيني تنهَمِر
و الجسمُ ذاكَ النَّاحِلُ المُضنى
يذوبُ و في جحيمٍ يستعِرْ
يا ليتَه قد صارَ عِهناً
ثُمَّ في الجوِّ اندَثَرْ
يا ليتَهُ قد كانَ ذاك الكبش
لمَّا انزوى عنه القطيع
إذ تردَّى فوقَ جُرْفٍ
صارَ في وادٍ عميقٍ
كلُّ شيءٍ فيه أمسى مُنكَسِرْ
ثمَّ جاءَ له رفيقٌ
خالَهُ ميتاً و لكنْ
راعَهُ ما قدْ نَظَرْ
و بِجِسْمِهِ –إنْ صحَّ قولي
فيهِ روح
و بكلِّ ذلك راضياً ذاكَ الخُروفْ
إذْ شُؤمُ كلِّ بهيمةٍ
أُلقي على الجسدِ النَّحيلْ
و يقولُ :"قد أرضيتُ ربِّي
ثم أرضى عن مليكي
بالقضاء وبالقَدَرْ"
لكنَّ ذلك كان في بدءِ العذابْ
و رفيقُه بِجِوارِهِ يرجُو المليكَ بِذِلَّةٍ
سلباً لأنفاسٍ أُخَرْ
و الجَدْبُ يملا السَّهلَ ذاك
فلا غذاءً أو دواءً
لا غطاءً أو صلاءً
لا جدولاً لا منهلاً
ما من كلأ
ما من ثمرْ
ما من مطرْ
سهلٌ كجَردٍ قاحِلٍ
و كُسورُ ذا الجِسمِ السَّقيمْ
و الخوفُ من ليلٍ بهيمْ
و القرُّ و الجُرحُ الأليمْ
و الضَّبعُ و الذِّئبُ اللئيمْ
و القر وز الجرح الأليم
و ذلكَ الكبشانِ رُضُّوا
 بالقضاءِ و بالقَدَرْ
***
لا تعتذِرْ
ردّدتُها سبعاً و لكِنْ
كلُّها سَرَدَتْها سرداً
مثل آلاتِ الخياطةْ
إتقانُها غرزُُ الإبَرْ
لكنَّها في العينِ
أو في الرأسِ
أو في القلبِ
قل لي طيفَها
أفأصطبِرْ
واهاً لأنَّاتِ الخروفْ
لو كانَ أناتٍ يُطيقْ
و مَضَتْ ليالي كلُّها فيما وَصَفتْ
و الجوعُ و البردُ الشَّديدْ
و دمٌ و قيحٌ بل صَديدْ
و الموتُ لا يُدني بريدْ
و الجوُّ عاصفةٌ و لكِنْ
دون غيثٍ أو مَطَرْ
واهاً لآهاتِ الرَّفيقْ
واها لآهات الصديق
و بليلةٍ كانتْ كأشأمِ ما يراها من ليالْ
بظلامِها ذاكَ العقيمْ
و رياحِها
تلكَ الرِّياحَ العاتية
و كما وصفتُ على الحياةِ القاسية
قد أقبلَ السِّيدُ اللئيمْ
إذ عينُ ربِّكَ ناظِرَة
و هو الرَّؤوفُ بنا الرَّحيمْ
فتذكَّرَ الكبشُ الوَديعُ
حكايةً مشهورةً
عن جدِّهِ العالي
فلقد رواهُ جُدودُهُ عن جَدِهِ
أنْ في الليالي جاءَ سبعٌ
تائهاً عن غابِهِ
فأتى القطيعْ
فرَّ الخِرافُ جميعُهم
لكنَّ كبشاً لمْ يَفِرّ
إذْ كانَ كبشاً أقرناً
مِن تِيهِه
مِن كِبرِهِ
و شموخِهِ و علائِه
و لِفَرْطِ قوَّتٍه غدا أسداً هَصورْ
وَجَمَ الأسدْ
و لقد درا في فِطرَةٍ و غريزةٍ
لو كانَ كبشاً كان فَرّ
فاهتابَه
و كأنَّ قرنيهِ العظيمينِ استحالا أرمُحَاً
و السَّبعُ ذاك بلا قُرونْ
فتحاميا
و تبارزا فتداولا و تصاولا 
و تقاتلا الكبشانِ لكن
ثَمَّ كبشٌ أعزلٌ و بلا قُرونْ
وتطاولتْ حربُ السِّباعِ
كأنَّها حربُ الدُّوَلْ
أرداهُ ذاك بطعنةٍ حربيَّةٍ
عن حِنكةٍ و دِرايةٍ
مِنْ رُمحِهِ المسمومِ في بطنِ الأسدْ
فغدا قتيلاً ثاوياً
بل صاغراً
أسطورةُ الكبشِ الذي قَتَلَ الأسَدْ
أسطورةُ الكبشِ المُسَلَّحِ و الخروفِ الأعزلِ
و تذاكرَ الكبشانِ تلك حِكايةً
و الذِّئبُ مفترِسٌ قريبْ
و تيقَّنا أنْ لا محالةَ يهلكانْ
ما مِن قرونِ اليومَ تُغني عن مُقارَعَةِ الَّلئيمْ
ما مِن سلاحٍ فاتكٍ في وَجهِ ذا الوحشِ الرَّجيمْ
ما مِنْ دواءٍ ناجعٍ يُقصيهِمَا عنْ دَرْبِهِ
و اللَّيلُ مُفتَرِشٌ عَقيمْ
وارَحْمَتا للعاشِقِ الولهانِ
لو يدري الحبيبُ
 بأيِّ أوصابٍ يَمُرّ
و تعجَّبَ الذِّئبُ الذي لا يعرفُ الإحساسْ
مِنْ أمرِ ذاكَ صديقِهِ كيفَ استَقَرْ
و علامَ لَمْ يُبدِ الهَلَعْ
و لقَدْ دَرى أسطورةَ الكبشِ الذي افترَسَ الأسدْ
و دنا الخبيثْ
و ذينَكُمْ يتجسَّسانِ مَواضِعَ النَّابِ
الذي يدنو فلا يَبدو الوَجَعْ
وتيقَّنا أنْ لا مَحَالَةَ زائلٌ ذاكَ العذابْ
بل يرنوانِ الذِّئبَ إذ يُنجيهِمَا ممَّا حَصَلْ
مِنْ كُلِّ جُوعٍ كُلِّ فَقْرٍ
كلِّ قَرّ
لكنّه لَهَجَ اللِّسانُ مُرَدِّداً
:"بالمُصطَفى جُدْ يا كريمْ
أنتَ الرَّؤوفُ بِنا الرَّحيمْ
و لقدْ أتى الذِّئبُ اللَّئيمْ
يُنجينَا مِنْ خَيرٍ و شرّ
عَلِمَ الخبيثُ بِأنَّهُمْ مِنْ نسلِ ذاكَ الأقرَنِ
فانسلَّ مِنْ بينِ الغَضَا
بعدَ اْن تَعطَّشَ للدَّمِ
و انسابَ رُعبٌ في الجِوارْ
في السَّهلِ و الجَردِ الحُقولْ
و في المغاراتِ التي في كلِّ ثَغْرْ
حتَّى لقد هَلَعَتْ لُيوثُ الغابِ
ممَّا قدْ أحاطَ بسمعِهِمْ حتَّى وَقَرْ
لكنَّهُ بقيَ الصَّديقُ معَ الرَّفيقْ
بلا غذاءٍ أو دواءٍ أو ثمرْ
يا ليتَني قدْ كنتُ ذاك الكبشَ ذاك
رِضوانُ خِلتُكَ
فاعترَضتَ كمالكٍ
و تقولُ لي:" لا تعتذِرْ!!
هذي الجحيمُ تلظَّى فيها
بَقعرَها فلتستَقِرْ
ذُقْ مِنْ عذابي و اصطَبِرْ
ذاكَ الجزاءُ المُنتَظَرْ"
ذاكَ الجزاءُ المُنتَظَرْ!!!
ثُمَّ استدارَتْ
في سواءِ بنائِها كانَ الخَبَرْ
يا طيفَها
أفكيفَ جئتَ لِتَعتَذِرْ
بعدَ انْ غَفَتْ تلكَ الكُلومْ
و صاحَ جُرحٌ في فؤادي يستعِرْ
و أفاقَ نهدٌ قد غفا طول الليالي كلِّها
تحت الرَّصاصِ المُنهمِرْ!!!

***


مع تحيات : الموقع الرّسمي للأستاذ ابن نزار الدمشقي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظه © ابن نزار الدمشقي

تصميم الورشه